فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

94 سورة الشرح:
وتسمى سورة الانشراح نزولها: نزلت بمكة بعد سورة (الضحى).
عدد آياتها: ثمان آيات.
عدد كلماتها: ست وعشرون كلمة.
عدد حروفها: مائة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة متمة لسورة (الضحى) قبلها، فكلتاهما عرض لما أنعم اللّه به على النبي، وتذكير له بهذه النعم، وتوجيه له إلى ما ينبغى أن يؤديه لها من حقّ عليه..وهكذا شأن كل نعمة ينعم اللّه بها على الإنسان، لا تتم إلا بالشكر للمنعم، وبالإنفاق منها على كل ذى حاجة إليها.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الآيات: (1- 8) [سورة الشرح (94): الآيات 1- 8]
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وزرك (2) الَّذِي أنقض ظهرك (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذكرك (4) فَإِنَّ مَعَ العسر يسرا (5) إِنَّ مَعَ العسر يسرا (6) فَإِذا فرغت فانصب (7) وَإِلى رَبِّكَ فارغب (8)}.
التفسير:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} الاستفهام هنا تقريرى، يفيد توكيد الخبر الواقع عليه الاستفهام..فهو خبر، ولذلك عطف عليه الخبر وهو قوله تعالى بعد ذلك: {وَوَضَعْنا عَنْكَ وزرك}..أي (شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك) وشرح الصدر، هو إخلاؤه من وساوس الحيرة والقلق، وإجلاء خواطر الهمّ، والغم التي تعشش فيه..وبهذا يتسع لبلابل الفرح والبهجة أن تصدح في جنباته، وأن تغرد على أفنانه..وإنه ليس كالهمّ قبضا للصدور، وخنقا للأنفاس، وإظلاما للمشاعر، وتجميدا للعواطف..إن المهموم المكروب، مكظوم الصدر، مبهور الأنفاس..على عكس الخلىّ من الهموم، المعافى من الآلام..إن صدره منبسط يستقبل أنسام الحياة فيرتوى بها، وينتعش بأندائها العطرة، ثم يحسو منها كما يحسو الطير من جداول الربيع، تسيل من عيون الجبال! هذا هو ما نفهم من قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} أما ما يروى من أخبار شرح صدر الرسول الكريم، بما يشبه العملية الجراحية، على يد ملكين كريمين يقال إن اللّه سبحانه بعثهما لهذه المهمة، فشقّا صدر النبي، وفتحا قلبه، وغسلاه، وملآه حكمة وعلما، فهذا مما ينبغى مجاوزته، وعدم الوقوف طويلا عنده، إذ ليس هذا القلب الصنوبري من اللحم والدم، هو مستودع العلم والحكمة، وعلى فرض أنه هو مستودع العلم والحكمة، فإنه ما كانت قدرة اللّه تعالى بالتي تعالج هذا الأمر مع النبي على هذا الأسلوب الذي توصل العلم الحديث إلى ما هو خير منه..ولا ندرى كيف تحمل كتب التفسير والحديث مثل هذه الأخبار، التي إذا وزنت بميزان العقل لم يكن لها وزن في معابير الحقيقة والواقع، الأمر الذي إذا وقف عليه غير الراسخين في العلم، أشاع الشك عندهم في حقائق هذا الدين كلها، وغطى دخان مثل هذه المقولات الساذجة الملفقة على حقائقه، وحجب الرؤية الصحيحة عن كثير من الأبصار!! إن الأمر يحتاج إلى نظرة فاحصة من علماء المسلمين جميعا، وإلى كلمة سواء بينهم في هذه المرويات المتهافتة، التي تضاف إلى الصفوة المختارة من صحابة رسول اللّه، والذين اتخذ الوضّاع والمنافقون من مكانتهم في نفوس المسلمين، مدخلا يدخلون به عليهم، ويروّجون عندهم هذا الزور من القول، معزوّا إلى كبار صحابة رسول اللّه، وإلى أعلام الإسلام، ومصابيح هداه!! وفى القرآن الكريم أكثر من آية تدل على أن شرح الصدر، هو تفتّحه للحياة، وإقباله على معالجة أمورها، في رضا، وشوق، وإقبال..وفى هذا يقول اللّه تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (22: الزمر) ويقول سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} (125: الأنعام) وعلى لسان موسى عليه السلام، يقول اللّه تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي} (25- 27: طه) وشرح الصدر في هذه المواضع كلها، هو بمعنى استجابته للخير الذي يدعى إليه، وتقبله له، واتساعه للكثير منه..
وضيقه، هو عدم تقبله للخير، واختناقه به، كما يختنق الصدر بالروائح الخبيثة المنكرة! فلم إذن يكون شرح اللّه سبحانه وتعالى لصدر رسول اللّه على هذه الصورة التي تشبه الملهاة، أو المأساة؟
وأكثر من هذا، فإن قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} يقابله في آية أخرى قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صدرك بِما يَقولونَ} (97: الحجر) فهل كان ضيق الصدر بعملية جراحية كعملية شرحه؟ إن هذا من ذاك سواء بسواء! وعلى أىّ، فإنه إذا صحت هذه المرويات عن شق صدر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغى ألا تحمل على محاملها المادية الظاهرة، بل ينبغى أن يلتمس لها وجه من التأويل تقبل عليه.
وقوله تعالى: {وَوَضَعْنا عَنْكَ وزرك الَّذِي أنقض ظهرك}. الوزر: الحمل الثقيل، من الهموم، ونحوها..
ونقض الظهر: هو نوءه بالحمل الثقيل، وانحناؤه تحته..
وهنا سؤال: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل أثقالا على ظهره، أم أنها أثقال المعاناة النفسية التي كان يعانيها من عناد قومه، وخلافهم عليه؟
وإذا كان اللّه سبحانه، قد شرح صدر النبي هذا الشرح المادي الذي شق به صدره، وفتح به قلبه- فهل فعل سبحانه مثل هذا بظهره، فشدّ أعصابه، وقوّى فقاره؟ أليس هذا من ذاك؟
وقوله تعالى: {وَرَفَعْنا لَكَ ذكرك} أي أجرينا ذكرك الحسن على الألسنة، وجعلنا لك ذكرا عاليا باقيا علي الزمن..فما آمن مؤمن باللّه إلا جعل الإيمان بنبوّتك من تمام إيمانه باللّه، وإنه لا يؤمن باللّه من لم يؤمن بأنك رسول اللّه، يقرن ذكرك بذكر اللّه. فأىّ ذكر أعظم من هذا الذكر؟ وأي قدر مثل هذا القدر لبشر غيرك؟
وإنا إذ ننظر في قوله تعالى في سورة: (الضحى):
{أَلَمْ يَجِدْكَ يتيماً فآوى وَوَجَدَكَ ضالا فهدى وَوَجَدَكَ عائلا فأغنى} ثم ننظر في قوله تعالى في سورة (الانشراح):
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك وَوَضَعْنا عَنْكَ وزرك الَّذِي أنقض ظهرك وَرَفَعْنا لَكَ ذكرك}.
إذ ننظر في هذه الآيات وتلك معا، نجد تطابقا في المعنى، وتقريرا له..فهذا اليتيم الفقير، يؤويه اللّه سبحانه، ويرفع ذكره في العالمين، ويجرى الحديث الطيب عنه على كل لسان، أبد الدهر..
والعهد باليتم والفقر، أن يقيما الإنسان في أدنى درجة في سلم المجتمع الإنسانى، حيث يلّفه الخمول والضياع، من مولده إلى مماته..
وهذا الضال الذي استبدّت به الحيرة، ورهقه البحث عن طريق الخلاص والنجاة، قد هداه اللّه، وجعله مصباح هدى للعالمين، فوضع بذلك عن كاهله هذا العبء الثقيل الذي كان ينوء به، من حيرته في أمره وأمر الظلام المنعقد على قومه..والعهد بالحائرين أن تعلق بهم الحيرة، وأن تترك بصماتها الواضحة عليهم، حتى بعد شفائهم مما كان قد ألمّ بهم من حيرة وقلق.
وهذا الفقير المعيل، وكان حسبه أن يجد الغنى الذي يسد مفاقره، ويشبع جوعه وجوع عياله- قد أغناه اللّه، وكفل له ولعياله لقمة العيش..ثم لم يقف غناه عند هذا، بل شرح اللّه صدره، وأودع فيه ما لا تتسع له كنوز الدنيا كلها، بما نزل عليه من آيات ربه، وبما أراه ربه من مقامه عنده، وبما بارك عليه في أسرته التي تضم كل مسلم ومسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، يمدّها على الزمن بهذا الغذاء الذي لا ينفد أبد الدهر، من ثمرات الإيمان، وزاد التقوى..
فأى شرح للصدر، وأي غبطة ورضا ومسرة تعمر جوانبه، أكثر من هذا وأعظم، وأبقى؟. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك (1)}
استفهام تقريري على النفي.
والمقصود التقرير على إثبات المنفي كما تقدم غير مرة.
وهذا التقرير مقصود به التذكير لأجل أن يراعي هذه المنة عندما يخالجه ضيق صدر مما يلقاه من أذى قوم يريد صلاحَهم وإنقاذَهم من النار ورفعَ شأنهم بين الأمم، ليدوم على دعوته العظيمة نَشيطاً غير ذي أسف ولا كَمَدٍ.
والشرح حقيقته: فصل أجزاء اللحم بعضِها عن بعض، ومنه الشريحة للقطعة من اللحم، والتشريح في الطب، ويطلق على انفعال النفس بالرضى بالحال المتلبس بها.
وظاهر كلام (الأساس) أن هذا إطلاق حقيقي.
ولعله راعى كثرة الاستعمال، أي هو من المجاز الذي يساوي الحقيقة لأن الظاهر أن الشرح الحقيقي خاص بشرح اللحم، وأن إطلاق الشرح على رضى النفس بالحال أصله استعارة ناشئة عن إطلاق لفظ الضيق وما تصرف منه على الإحساس بالحزن والكمد قال تعالى: {وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز} [هود: 12] الآية.
فجعل إزالة ما في النفس من حزن مثل شرح اللحم وهذا الأنسب بقوله: {فإن مع العسر يسرا} [الشرح: 5].
وتقدم قوله: {قال رب اشرح لي صدري} في سورة طه (25).
فالصدر مراد به الإِحساس الباطني الجامع لمعنى العقل والإدراك.
وشرح صدره كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات وإعلامه برضى الله عنه وبشارته بما سيحصل للدّين الذّي جاء به من النصر.
هذا تفسير الآية بما يفيده نظمها واستقلالها عن المرويات الخارجية، ففسرها ابن عباس بأن الله شرح قلبه بالإِسلام، وعن الحسن قال: شرح صدره أن مُلِئَ علماً وحكماً، وقال سهل بن عبد الله التستري: شرح صدره بنور الرسالة، وعلى هذا الوجه حمله كثير من المفسرين ونسبه ابن عطية إلى الجمهور.
ويجوز أن يجعل الشرح شرحاً بدنياً.
وروي عن ابن عباس أنه فسر به وهو ظاهر صنيع الترمذي إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة فتكون الآية إشارة إلى مرويات في شَق صدره صلى الله عليه وسلم شقّاً قُدُسياً، وهو المروي بعض خبره في (الصحيحين)، والمروي مطولاً في السيرة والمسانيد، فوقع بعض الروايات في (الصحيحين) أنه كان في رؤيا النوم ورؤيا الأنبياء وحي، وفي بعضها أنه كان يقظة وهو ظاهر ما في (البخاري)، وفي (صحيح مسلم) أنه يقظة وبمرأى من غلمان أترابه، وفي حديث مسلم عن أنس بن مالك أنه قال: رأيت أثر الشق في جلد صدر النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين النائم واليقظان، والرواياتُ مختلفة في زمانه ومكانه مع اتفاقها على أنه كان بمكة.
واختلاف الروايات حمل بعضَ أهل العلم على القول بأن شق صدره الشريف تكرر مرتين إلى أربع، منها حين كان عند حليمة.
وفي حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل أن الشق كان وعمُر النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين.
والذي في (الصحيح) عن أبي ذر أنه كان عند المعراج به إلى السماء، ولعل بعضها كان رؤيا وبعضها حساً.
وليس في شيء من هذه الأخبار على اختلاف مراتبها ما يدل على أنه الشرح المراد في الآية، وإذ قد كان ذاك الشق معجزة خارقة للعادة يجوز أن يكون مراداً وهو ما نحاه أبو بكر بن العربي في (الأحكام)، وعليه يكون الصدر قد أطلق على حقيقته وهو الباطن الحاوي للقلب.
ومن العلماء فسر الصدر بالقلب حكاه عياض في (الشفا)، يشير إلى ما جاء في خبرِ شق الصدر من إخراج قلبه وإزالة مقر الوسوسة منه، وكلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم لنفس النبي صلى الله عليه وسلم إمَّا مباشرة وإما باعتبار مغزاهُ كما لا يخفى.
واللام في قوله: {لك} لام التعليل، وهو يفيد تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله فعل ذلك لأجله.
وفي ذكر الجار والمجرور قبل ذكر المشروح سلوك طريقة الإِبهام للتشويق فإنه لما ذُكر فعل {نشرح} عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحاً، فلما وقع قوله: {لك} قوي الإِبهام فازداد التشويق، لأن {لك} يفيد معنى شيئاً لأجلك فلما وقع بعده قوله: (صدره) تعين المشروح المترقَّب فتمكن في الذهن كمال تمكن، وهذا ما أشار إليه في (الكشاف) وقفِّي عليه صاحب (المفتاح) في مبحث الإِطناب.
والوِزر: الحَرج، ووضْعه: حطَّه عن حامله، والكلام تمثيل لحال إزالة الشدائد والكروب بحال من يحط ثقلاً عن حامله ليريحه من عناء الثقل.
والمعنى: أن الله أزال عنه كل ما كان يتحرج منه من عادات أهل الجاهلية التي لا تلائم ما فَطر الله عليه نفسه من الزكاة والسمو ولا يجد بداً من مسايرتهم عليه فوضع عنه ذلك حين أوحى إليه بالرسالة، وكذلك ما كان يجده في أول بعثته من ثقل الوحي فيسَّره الله عليه بقوله: {سنقرئك فلا تنسى} إلى قوله: {ونيسرك لليسرى} [الأعلى: 6 8].
و{أنقض} جعل الشيءَ ذا نقيض، والنقيض صوت صرير المحمل والرحْل وصوتُ عظام المفاصل، وفرقعةُ الأصابع، وفعله القاصر من باب نصر ويعدّى بالهمزة.
وإسناد {أنقض} إلى الوِزر مجاز عقلي، وتعديته إلى الظهر تَبع لتشبيه المشقة بالحمل، فالتركيب تمثيل لمتجشم المشاققِ الشديدة، بالحَمولة المثقلة بالإِجمال تثقيلاً شديداً حتى يسمع لعظام ظهرها فرقعة وصرير.
وهو تمثيل بديع لأنه تشبيه مركب قابل لتفريق التشبيه على أجزائه.
ووصف الوزر بهذا الوصف تكميل للتمثيل بأنه وزر عظيم.
واعلم أن في قوله: {أنقض ظهرك} اتصالَ حرفي الضاد والظاء وهما متقاربا المخرج فربما يحصل من النطق بهما شيء من الثقل على اللسان ولكنه لا ينافي الفصاحة إذ لا يبلغ مبلغ ما يسمى بتنافر الكلمات بل مثله مغتفر في كلام الفصحاء.
والعرب فُصحاء الألسن فإذا اقتضى نظم الكلام ورود مثل هذين الحرفين المتقاربين لم يعبأ البليغ بما يعرض عند اجتماعهما من بعض الثقل، ومثل ذلك قوله تعالى: {وسبحه} [الإنسان: 26] في اجتماع الحاء مع الهاء، وذلك حيث لا يصح الإدغام.
وقد أوصى علماء التجويد بإظهار الضاد مع الظاء إذا تلاقيا كما في هذه الآية وقوله: {ويوم يعض الظالم} [الفرقان: 27] ولها نظائر في القرآن.
وهذه الآية هي المشتهرة ولم يزل الأيمة في المساجد يتوخون الحذر من إبدال أحد هذين الحرفين بالآخر للخلاف الواقع بين الفقهاء في بطلان صلاة اللحَّان ومَن لا يحسن القراءة مطلقاً أو إذا كان عَامداً إذا كان فذاً وفي بطلان صلاة من خلفه أيضاً إذا كان اللاحن إماماً.
ورفع الذكر: جعل ذكره بين الناس بصفات الكمال، وذلك بما نزل من القرآن ثناء عليه وكرامة.
وبإلهام الناس التحدث بما جبله الله عليه من المحامد منذ نشأته.
وعطفُ {ووضعنا} و{رفعنا} بصيغة المضي على فعل {نشرح} بصيغة المضارع لأن (لَم) قلبت زمن الحال إلى المضي فعُطف عليه الفعلان بصيغة المضي لأنهما داخلان في حيز التقرير فلما لم يقترن بهما حرف (لم) صيّر بهما إلى ما تفيده (لم) من معنى المضي.
والآية تشير إلى أحوال كان النبي صلى الله عليه وسلم في حرج منها أو من شأنه أن يكون في حرج، وأن الله كشف عنه ما به من حرج منها أو هيّأ نفسه لعدم النوء بها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها كما أشعَر به إجمالها في الاستفهام التقريري المقتضي علم المقرَّر بما قُرر عليه، ولعلّ تفصيلها فيما سبق في سورة الضحى فلعلها كانت من أحوال كراهيته ما عليه أهل الجاهلية من نبذ توحيد الله ومن مساوي الأعمال.
وكان في حرج من كونه بينهم ولا يستطيع صرفهم عما هم فيه ولم يكن يترقب طريقها لأن يهديهم أو لم يصل إلى معرفة كنه الحق الذي يجب أن يكون قومه عليه ولم يطمع إلا في خويصة نفسه يودّ أن يجد لنفسه قبس نور يضيء له سبيل الحق مما كان باعثاً له على التفكر والخلوة والالتجاء إلى الله، فكان يتحنث في غار حراء فلما انتشله الله من تلك الوحلة بما أكرمه به من الوحي كان ذلك شرحاً مما كان يضيق به صدره يومئذ، فانجلى له النور، وأمِر بإنقاذ قومه وقد يظنهم طلاَّب حق وأزكياء نفوس فلما قابلوا إرشاده بالإِعراض ومُلاطفته لهم بالامتعاض، حدث في صدره ضيق آخر أشار إلى مثل قوله تعالى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] وذلك الذي لم يزل ينزل عليه في شأنه رَبْطُ جأشه بنحو قوله تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن اللَّه يهدي من يشاء} [البقرة: 272] فكلما نزل عليه وحي من هذا أكسبه شرحاً لصدره، وكان لحماية أبي طالب إياه وصده قريشاً عن أذاه منفس عنه، وأقوى مؤيد له لدعوته يَنشرح له صدره.
وكلما آمن أحد من الناس تزحزح بعض الضيق عن صدره، وكانت شدة قريش على المؤمنين يضيق لها صدره فكلما خلُص بعض المؤمنين من أذى قريش بنحو عتق الصديق بلالاً وغيره، وبما بشره الله من عاقبة النصر له وللمؤمنين تصريحاً وتعريضاً نحو قوله في السورة قبلها: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5] فذلك من الشرح المراد هنا.
وجماع القول في ذلك أنَّ تجليات هذا الشرح عديدة وأنها سر بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم المخاطب بهذه الآية.
وأما وضع الوزر عنه فحاصل بأمرين: بهدايته إلى الحق التي أزالت حيرته بالتفكر في حال قومه وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} [الضحى: 7] وبكفايته مؤنة كُلف عيشه التي قد تشغله عما هو فيه من الأنس بالفكرة في صلاح نفسه، وهو ما أشار إليه قوله: {ووجدك عائلا فأغنى} [الضحى: 8].
ورفْع الذكر مجاز في إلهام الناس لأن يذكروه بخير، وذلك بإيجاد أسباب تلك السمعة حتى يتحدث بها الناس، استعير الرفع لحسن الذكر لأن الرفع جعل الشيء عالياً لا تناله جميع الأيدي ولا تدوسه الأرجل.
فقد فطر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على مكارم يعزّ وجود نوعها ولم يبلغ أحد شأوَ ما بلغه منها حتى لُقب في قومه بالأمين.
وقد قيل إن قوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 21] مراد به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن عظيم رفع ذكره أن اسمه مقترن باسم الله تعالى في كلمة الإِسلام وهي كلمة الشهادة.
وروي هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن حبان وأبي يعلى قال السيوطي: وإسناده حسن، وأخرجه عياض في (الشفاء) بدون سند.
والقول في ذكر كلمة {لك} مع {ورفعنا} كالقول في ذكر نظيرها مع قوله: {ألم نشرح}.
وإنما لم يُذكر مع {ووضعنا عنك وزرك} بأن يقال: ووضعنا لك وزرك للاستغناء بقوله: {عنك} فإنه في إفادة الإِبهام ثم التفصيل مساوٍ لكلمة {لك}، وهي في إفادة العناية به تساوي كلمة {لك}، لأن فعل الوضع المعدَّى إلى الوزر يدل على أن الوضع عنه فكانت زيادة {عنك} إطناباً يشيرإلى أن ذلك عناية به نظير قوله: {لك} الذي قبله، فحصل بذكر {عنك} إيفاء إلى تعدية فعل {وضعنا} مع الإِيفاء بحق الإِبهام ثم البيان. اهـ.